رنا نجار…. الحياة

 

ENTAWAYEN (1)

لم تفهم غالبية اللبنانيين ما حصل في «بيت بيروت» أو «البيت الأصفر» أو «مبنى بركات» (كما كان يسمى سابقاً) الذي افتتحه أول من أمس، رئيس بلدية بيروت بلال حمد، ليوم واحد، بعدما كان مقرراً افتتاحه في أيلول (سبتمبر) المقبل، بعد 13 سنة من العمل لعودة الروح إليه ليكون متحفاً حياً شاهداً على سوداوية الحرب الأهلية وليبقى مساحة مفتوحة وتفاعلية توثّق لتاريخ بيروت القديم والحديث في معرض دائم للفنون. ٫من يمرّ من أمام هذا البيت الذي من المفترض أن يحفظ ذاكرة الحرب السوداوية الجماعية، يتنبّه إلى أنه يشبه فعلاً الإنسان المريض نفسياً وجسدياً، كأنه مبتور أو مكسور، وذلك من خلال الإطارات المعدنية الرمادية التي «تشوّه» أو «تزيّن» شبابيكه وأبوابه. هذا المبنى المريض الذي يشبه لبنان، لن يُفتح أمام الجمهور لأنه غير مجهّز وليس فيه أي برنامج ثقافي، لا بل الترميم لم يكتمل بعد. وهناك ملاحظات كثيرة وضعتها اللجنة الفنية الاستشارية التي تابعت المبنى منذ استملاكه من البلدية، تحتاج إلى نقاشات طويلة

إذاً لماذا تمّ هذا الافتتاح؟ هل ليُثبت رئيس بلدية بيروت بلال حمد في نهاية ولايته، أن هذا المتحف من إنجازات مجلسه؟ مع العلم أن المرسوم الرقم 10362 الذي قضى بإقامة متحف وملتقى ثقافي وفنّي وحضاري، ومكان لحفظ الأبحاث والدراسات التي تتناول مدينة بيروت عبر التاريخ، صدر في حزيران (يونيو) 2003 في عهد رئيس البلدية السابق عبدالمنعم العريس

شاهد على عمارة بيروت

 

المبنى التاريخي القائم في منطقة «السوديكو» لم يكن شاهداً فقط على تحوّلات بيروت السياسية من خلال موقعه على «خطوط التماس»، حيث ثُبّتت متاريس القناصين ومنه قتل أشخاص كثر ذنبهم أنهم مرّوا بين شرق بيروت وغربها، وإنما هو شاهد أيضاً على تحوّلات العمارة في بيروت وتحديداً التحوّل من عمارة الحجر إلى استعمال الإسمنت المسلّح مادّةً أساسيّة في هياكل البناء. فقد شيّد مبنى بركات (وهو اسم العائلة التي كانت تملكه) على يد أحد أبرز المهندسين المعماريين في تاريخ بلاد الشام يوسف أفندي أفتيموس عام 1924 من طبقتين الأرضية والأولى، ومن ثم صمّم فؤاد قزح الطبقتين الثانية والثالثة عام 1936، شهد مراحل موت وإنعاش منذ العام 2003 حيث بدأت «معركة» مدنية بقيادة المهندسة المعمارية منى حلاق لاستملاكه من جانب بلدية بيروت، وبالتالي عدم هدمه وتحويله إلى متحف حيّ شاهد على الحرب الأهلية اللبنانية وفضاء ثقافياً تفاعلياً

المبنى الذي ساهمت في ترميمه بلدية باريس، أوكلت بلدية بيروت عام 2010 ترميمه ووضع سينوغرافيا وهوية له، إلى المهندس اللبناني يوسف حيدر الذي يتمتّع بخبرة في ترميم الأبنية التراثية، لكن اللجنة العلمية المؤلفة من مستشارين ومعماريين وعلماء تاريخ وموثقين اعترضت على عدم اعتماد نظام المباراة المعمارية المفتوحة، ليشارك فيها جميع المعماريين اللبنانيين. وسيكون لـ «الحياة» مقابلة مع حيدر لشرح هوية المبنى التي اعتمدها، والردّ على انتقادات مهندسين معماريين من زملائه على هذا الترميم تحديداً، خصوصاً بعدما اعتمد ما يُسميه مبدأ «أنسنة المبنى» وإضافة مبنى جديد من 11 طبقة ليكمل المبنى القديم الذي لا يمكن وحده بهذه المساحة أن يكفي ليكون متحفاً يتضمن مكتبة وصالات عرض كما هو مبرمج. لم يرمّم حيدر المبنى ليعيده صالحاً للسكن في القرن الواحد والعشرين أو كما رُمّمت مباني الوسط التجاري في غالبيتها. لكن حيدر اعتمد الأعضاء الاصطناعية

(Prothèse)

ليركّز عليها معالم المبنى الأصلية، والتي غالبيتها مرصوفة بالرصاص أو شبه مهترئة

بعض المعماريين يعتبرون أن هذا المبدأ «شوّه» روح «بيت بيروت» الذي من أهميته أن يترك كما هو بعلّاته وملامحه الحربية وقناصاته التي نراها، خصوصاً في الطبقة الأولى التي تعتبر الأكثر دلالة على همجية الحرب في المبنى كله. فهو شاهد والشاهد لا يغيّر شهادته. وبدا كل من المعماريين منى حلاق وجورج عربيد وهما من اللجنة العلمية الاستشارية للمتحف، منزعجين من أمور كثيرة أجريت في طريقة الترميم، على رغم فرحتهما العارمة التي تحدثا عنها لـ «الحياة» بوصول المشروع إلى هذه المرحلة، رغم كل الصعوبات اللوجيستية والتفصيلية التي لا تزال قائمة حتى اليوم، خصوصاً مع عدم وضع برنامج ثقافي واضح للمتحف. وقالت حلاق: «رغم فرحتي أنا مقهورة اليوم لأن المبنى صار عدائياً وقاسياً، بعدما كان مسالماً وجميلاً رغم كل ما مرّ به من اعتداءات عسكرية»

وهناك ملاحظات على المبنى لا تحتاج إلى مختصّ بالعمارة، فالمدخل مثلاً وضع فيه بلاط غرانيت رمادي عصري يشبه بلاط أرصفة الطرقات في باريس، ولا يمتّ بصلة إلى بيروت. هذا عدا عن درج في باحة المدخل يصل الطبقات ببعضها، بناه حيدر حديثاً، لأنه لا يمكن استخدام الدرج القديم الخطر. لكن الجديد خطر أيضاً لأنه غير مريح وقد يقع من يستعمله في النزول، وهو غير مريح في الصعود. ولا نفهم مثلاً لماذا عمد إلى إضافة فجوات رصاص اصطناعية في بعض الأمكنة، بدلاً من ترميم الموجودة فقط لتبقى كما هي، فالمبنى «مرشوش» بفجوات الرصاص الحقيقية، ولا يفهم لماذا حجب الرؤية من الداخل إلى الخارج، مقابل الدرج ووضع ألواحاً زجاجية مع مثبتات معدنية على طول المبنى؟ لتبدو هذه الألواح كسقالات لم تُزل بعد

على كل حال هذه الأسئلة سيجيب عنها حيدر المشهود له بمهنيته في الترميم من خان الصابون في مدينة طرابلس، إلى الجامع العمري والمتحف الخاص في الجامعة الأميركية ببيروت، وغيرها، في مقابلة خاصة مع «الحياة»

لكن الذين يعرفون مبنى بركات، يدركون أنه تحوّل إلى مبنى آخر، لا يشبه ذلك القديم فاقداً المعنى الذي وجد من أجله… لكن وجهات النظر في الهندسة تبقى نسبية

ENTAWAYEN (2)