من جل الديب صباحاً إلى الجية مساءً، تجلّى قمع المتظاهرين بأبشع حلّله. والقامع واحد بلباس مرقّط، وعصي خشبية لا تترك إلا الأذى في الجسد. تترك فجوات في الرؤوس ورضوض على الأضلع
بات واضحاً أنّ ثمة قراراً بوضع الجيش اللبناني في مواجهة أي تحرك ميداني جدّي. في جل الديب، تذرّع الجيش بأنّ إقفال الطرقات ممنوع، ولو أنها حجة واهية على اعتبار أنّ المتظاهرين تركوا منافذ على الأوتوستراد. أما في الجية فكانت الفضيحة. الثوار لم يقطعوا طريقاً ولم يعتدوا على أي أملاك خاصة أو عامة. وقف ثوار من برجا على مدخل معمل الكهرباء وعبّروا بسلمية مطلقة عن مطالبهم. دخلوا مكاتب المعمل واعتصموا داخله. أما القمع فكان “شغّالاً” في الخارج. سقط تسعة جرحى، واعتدي بالضرب حتى على رئيسي البلدية الحالي والسابق، ريمون ونشأت حمية. لماذا؟
الجزيرة الثورية
تجسّد منطقة ساحل الشوف جزيرة ثورية تصيب تحرّكاتها قوى السلطة في مقتل. موقعها الجغرافي قادر على قطع أوصال البلد. يمكن من خلال قطع الطريق من وإلى الجنوب. ولهذا يكون السعي الدائم والمتواصل لأبلسة أي تحرّك في هذه النقطة. فكانت التهمة المذهبية جاهزة لإطلاقها أولاً. سنّة يقطعون الطريق على شيعة. من دون التساؤل أيضاً عن إقامة شبه ثكنات عسكرية حزبية بمحاذاة طريق الجنوب. هي اللغة المذهبية نفسها التي دفعت مئات الزعران إلى مهاجمة أماكن الاعتصام في بيروت مرّات عديدة. وفي وقت لاحق محاولة “تلبيس” ثوار برجا مسؤولية حادث السير، الذي أدى إلى سقوط حسين شلهوب وسناء الجندي اللذين انضمّا إلى قافلة ضحايا وشهداء السلطة وأحزابها. فشلت تلك المحاولة بوقائع الفيديو، فلا مولوتوف أطلق على السيارة ولا دخل لاعتصام الثوار بالحادث، بل عوائق حديدية على مقربة من انتشار لعناصر الجيش
سقوط فخ المذهبية
ويأتي قمع ثوار برجا لمحاولة تغذية الخطاب المذهبي من جديد. هؤلاء لم يقاربوا الموضوع من هذه الزاوية، على الرغم من كون السلطة تدفعهم بكامل قوّتها إلى ذلك. ولو أنّ التساؤل مشروع عن أسباب قمع جل الديب وبرجا، بما تمثّلاه مذهبياً وطائفياً. في حين أنّ الجيش لم يتواجه فعلياً مع زعران “الرينغ”، وغيرها من الغزوات المتتالية في بيروت، بما يمثّله هؤلاء أيضاً على المستوى المذهبي. فيحمّل الثوار مسؤولية القمع الوحشي الذي تعرّضوا له إلى “أوامر” من ضباط. أي يتهمون أفراداً بمراكز القيادة وحسب، بوعي فائق ومن دون اللجوء إلى أي خطاب مذهبي. ففي الانجرار وراء ذلك، مقتل. وقوع في الفخ السلطوي. يقول ثوار برجا أنّ “ضابطاً مسؤول عما حصل”. ليس المؤسسة العسكرية حتى. لا يريدون مواجهة الجيش أصلاً. لكن العناصر، بأمر، بادرت باستخدام الهراوي والضرب. وعي إضافي يسجّل للثوار. هم يعلمون أنّ الجوع يصيب أيضاً هؤلاء العناصر وأسرهم. ومع أي فشل جديد وقريب لحكّام الدولة الفاشلة، الذين قادوا البلد إلى الانهيار والأزمة والجوع، ستنضمّ أصوات إضافية إليهم. أصوات العاملين في القطاع الرسمي من كل القطاعات والفئات. الحال واحدة وستجمع وتوحّد الناس ومطالبهم
فشل كسر العصب
المطلوب تأديب برجا وكل المناطق التي لفظت السلطة وأحزابها. لكن في رد فعل المناطق وتضامنها ضد القمع الحاصل دلالة واضحة على حال التعاضد بين مجموعات الثوار. في برجا وسائر قرى إقليم الخروب مطالب واضحة ومحقة. هي جزء من ثورة 17 تشرين بطلبها العام وسقف “كلن يعني كلن”. يريدون استعادة الأموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين، عبر حكومة إنقاذ من خارج المنظومة المالية والسياسية
لكن لهؤلاء الأهالي أيضاً مطالب خاصة في منطقتهم، حول التلوّث من معملي سبلين والجية، من حرمانها من الكهرباء في ظلّ وجود ثلاث مرافق للطاقة في بلداتهم. هم يتنشّقون سموم المعامل وسرطاناتها ويعيشون في العتمة. لهؤلاء الثوار بنك أهداف متنوّعّ، مرافق الطاقة والاتصالات وأخرى للمحروقات. يعدّون العدّة للتصعيد عن طريق تنفيذ اعتصامات طيّارة وأخرى دائمة أمام نقاط محددّة. هم مستمرّون في تحرّكاتهم رغم القمع. ولن يتراجعوا قبل تحقيق مطالبهم، فكل الثورة في نقطة اللاعودة
المصدر: المدن