وجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، رسالة بمناسبة حلول شهر رمضان، أكد فيها أن “الوطن في خطر، بسبب غياب رئيس للجمهورية، وتعطل المؤسسات الدستورية. ودار الفتوى ستبقى أمينة ومؤتمنة على وحدة الصف الإسلامي والوطني”، مشددا على انه “ليس من حق أحد أيا كان، أن يلغ في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، بدافع الهوى والاستيلاء”، ومناشدا “المجتمع العربي والدولي، وضع حد نهائي لمأساة الشعبين السوري والعراقي، وإنهاء هذه الحروب العبثية

وجاءت الرسالة على النحو الآتي: “الحمد لله الذي شرع لعباده الصيام، لتهذيب نفوسهم وتطهيرهم من الآثام، أحمده تعالى وهو المستحق للحمد، وأشكره على نعمه التي تزيد عن العد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أتقى من صلى وصام وحج واعتمر، وأطاع ربه في السر والجهر، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. وبعد، يقول المولى تعالى في محكم تنزيله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون

وأضاف دريان: “أيها المسلمون، يقدم علينا رمضان كل عام خير مقدم. فالصوم فريضة في القرآن، بمقتضى قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”. وهو عمل رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، وحبه وأداؤه للطاعات، يدل على ذلك كثرة أحاديثه في الحث على أداء الفريضة، وفي تبيان الفضائل الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية لرمضان وصومه. وإذا كانت الصلاة عماد الدين، والحج موطن اجتماع جماعة المسلمين؛ فإن الصوم – فضلا عن كونه عبادة رئيسة في الإسلام والأديان، فقد صار علما على الإسلام في العالم

وتابع: “أولى فضائل الصوم ومآثره، أداء الفريضة، لأنها شاهد على طاعة الله، وقال تعالى: “ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما”. إن الفوز المقصود، هو الفوز برضوان الله، وهو هدف المسلم ومعنى حياته، وقال تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون* إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين”. بيد أن أداء الطاعات، يجلب معه آثارا كبرى في نفوس الأفراد والمجتمعات، وفي تشكيل عقولهم وتصرفاتهم، كما في علاقاتهم مع أسرهم وذوي قرباهم، وإخوانهم من المسلمين، الذين يلقاهم يوميا في الصلوات الجامعة، وفي صلوات التراويح والتهجد، وفي منتديات الأحاديث الدينية، ومنتديات الحض على مكارم الأخلاق

وأشار إلى أن “فضيلة التواصل في العبادة وخارجها، لها ميزاتها العملية المتمثلة في العمل الخيري والإنساني. فقد كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، جوادا كريما في كل حال ووقت، لكنه كان في رمضان – كما جاء في الحديث الشريف: “أجود من الريح المرسلة”. والمسلمون يستطيعون أداء زكاتهم في نهاية العام، لكن سنتهم الجامعة، كانت وما تزال أداء الزكاة في رمضان. والزكاة والصدقات، إحدى أكبر وأعمق مظاهر ومعاني التواصل والتضامن والتكافل بين المسلمين. ولذا واقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه، يكون على المسلمين الحرص على أداء الفريضتين الأخريين، وأعني بهما، الصلاة والزكاة. إنها جميعا عبادات مفروضة، ولا علاقة لها بأي أمر آخر، غير التماس طاعة الله ورضوانه. فإذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما جاء في القرآن الكريم، فإن الصوم إذا اقترن بالزكوات والصدقات، يؤدي وظائف اجتماعية كبرى في المودة والتضامن، ومعالجة مشكلات الفقر والفاقة، وقال تعالى: “والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم”. إن علينا أن نرتفع إلى مرتبة أداء حق الله، وحقوق العباد، والزكاة أحد هذه الحقوق. ولنمض من هذه الاعتبارات والمعاني والآثار، إلى الفضيلة الثالثة، إذا صح التعبير، وهي أكثر من فضيلة، بل حالة دائمة، وخصلة من خصال المؤمن العامل والواثق، إنها التقوى التي قال عنها القرآن الكريم: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى”. فالتقوى هي ميزان تفكير المؤمن وسلوكه في اتقاء المحرمات، وأداء الطاعات، وصنع الخيرات

وقال: “التقوى ليست اعتزالا وانعزالا، ولا ترددا، بل حالة من الثقة بالله وبالنفس، والذهاب باتجاه المبادرة، التي سماها القرآن الكريم: “استباق الخيرات، أو التسابق إليها”. فالتنافس في صنع الخير وعمله، إنما يتم إذن بالمبادرة. والتقوى الناجمة عن الطاعات في الصوم والصلاة والزكاة، كما تولد الثقة، وتدفع باتجاه المبادرة، فإنها تصنع حالة من الهدوء والسلام، بين المرء وربه، وبين المرء ومحيطه، وبين المرء ونفسه. وبذلك يكون السلام جزءا من المبادرة التي يسعى المسلم لإشاعتها مع القريب والبعيد، وبداخل الوطن وخارجه. وسلام رمضان، هو سلام عذب، لأنه سلام الإيمان والثقة

وأضاف: “نحن نتحدث عن رمضان، ونتحدث عن إقبال المؤمن التقي الورع، على صنع السلام بداخله، وفي محيطه، والعالم، برحمة الله وتوفيقه. يبدأ الورع من أجل التنقية والتصفية، باتقاء المحرمات. وأكبر المحرمات تجاه الناس ثلاث، حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: “حرمة الدم، وحرمة العرض والشرف والكرامة، وحرمة المال والملك”. فليس من حق أحد أيا كان، أن يلغ في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، بدافع الهوى والاستيلاء، أو بدافع الظلم والاستعلاء، أو بدافع الخفة والاستخفاف، أو بدافع الثأر الجاهلي. ويقول الله تعالى: “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق”، ويقول تعالى: “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا”. وها نحن نشهد على مدى العالم العربي طولا وعرضا هذا الإسراف في سفك الدم، بدوافع الغلو، ودوافع الطغيان، ودوافع الطائفية، ودوافع الثأر

وتابع: “مئات الآلاف من الناس يهلكون. وملايين تهجر من الديار، ويهلك أطفالهم في البراري والقفار، أو في البحار. فأين نحن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم). المؤمن لا يقتل ولا يكذب ولا يبخل، ولا يأكل أموال الناس بالباطل. فعلينا أن نبادر بدوافع الإيمان والتقوى، لكف الظلم، وصون الدماء والأعراض، وتأمين الناس في ديارهم وأموالهم. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)

وناشد “المجتمع العربي والدولي، وخصوصا جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجلس الأمن، لوضع حد نهائي لمأساة الشعبين السوري والعراقي، وإنهاء هذه الحروب العبثية، التي يدفع ثمنها الناس من أرواحهم وأرزاقهم ووجودهم”، مؤكدا أن “حاجات المؤمن قليلة، لكن طموحاته كبيرة، لأن المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا بد لتسلم المجتمعات من أن يمارس المؤمنون بالعدل والأخلاق والسلام، مقتضيات إيمانهم، بصنع الخير والحق، ومكافحة العدوان على الدماء والكرامات. وهم في سبيل بلوغ ذلك يتعاونون ويتضامنون مع إخوانهم ومواطنيهم. وهناك عيش مشترك، قائم بين المسلمين والمسيحيين، وهم متعاقدون ومتعاهدون، على المساواة والعدالة والحرية، وإقامة نظام توافقي لا يؤكل فيه حق أحد، ولا يهضم حق أحد. ليس النظام اللبناني كاملا، ولا سائر الأنظمة السياسية في العالم، لكنه النظام الذي يحقق مصالح السواد الأعظم من المواطنين، وينبغي التمسك به وإصلاحه إن تطلب الأمر ذلك. أما التخلي عنه أو تعطيله كما يحصل الآن، فأمر لا يمكن أن يسير فيه لبناني يحب وطنه، ومؤمن بصنع السلام والعدالة والتقدم فيه، وفي العالم من حوله

وتوجه الى المسلمين واللبنانيين بالقول: “الوطن في خطر، بسبب غياب رئيس للجمهورية، وتعطل المؤسسات الدستورية. والوطن في خطر، لأنني أرى بصراحة ووضوح، هذا التقاطع والجفاء ليس بين السياسيين فقط، بل وبين المثقفين وفئات مختلفة من المواطنين. وهناك أجواء من الهواجس والشكوك، (والقيل والقال)، لا يصح السكوت عليها، أو التسليم بها. فعقلية التوافق ضرورية للاستقرار والاستمرار. وليس صحيحا أن التوافق قرين الفساد. ثم إن التوافق لا غنى فيه عن حسن الإدارة، وعن خرط عنصر الشباب. وقد كان الأمران يجريان بطرائق مقبولة في فترات عدة من تاريخ لبنان الحديث

وأضاف: “في تاريخنا اللبناني القريب بدت ثمرات التوافقية اليانعة. ويستطيع اللبنانيون – بالعودة إلى الرشد الجامع – أن يعودوا ويتابعوا مسيرة التوافق، لأنه لن يسلم وطنهم، وسط هذا المخاض الذي يعانيه الوطن العربي بدونها. فلنضع نصب أعيننا، أنه لا وطن لنا غير هذا الوطن، ولا دولة غير هذه الدولة”، متسائلا : “ألا ترون أمواج اللاجئين والمهجرين، الذين لم يعد لهم وطن ولا دولة؟!

وتابع: “أمامنا استحقاقات سندخل فيها بجدل سياسي، أيهما أسبق، الانتخابات النيابية أم الانتخاب الرئاسي؟، إن في مقدمة الأولويات، لا بل الأولوية المطلقة، انتخاب رئيس للجمهورية، ونحن ما زلنا على موقفنا بأن إنجاز الانتخاب الرئاسي، هو أمر مهم جدا للبنان وللبنانيين، ولا يمكن أن نخرج من أزماتنا المتلاحقة، ومن الشلل المسيطر على كل مؤسساتنا الدستورية وغيرها من مؤسسات الدولة، إلا بإنجاز انتخاب رئيس لهذه الجمهورية، الذي يمثل بالنسبة لنا حامي الدستور، والوحدة الوطنية، والمؤتمن على المؤسسات وعلى عمل المؤسسات التابعة لهذه الدولة

وأردف: “أمامنا فرصة كبيرة في شهر رمضان، أن نعود نحن إلى ذاتنا، ونقوم أوضاعنا، ونفكر أين أصبنا، وأين لم يحالفنا التوفيق. نعم رمضان مرحلة للتقويم، الذاتي للانسان كإنسان، ولمجتمعاتنا ولتجمعاتنا، ودار الفتوى ستبقى أمينة ومؤتمنة على وحدة الصف الإسلامي والوطني

وختم الرسالة: “يقدم علينا رمضان، شهر الخير والبر والتقوى والمغفرة. وهو شهر المحبة والتضامن والسلام . وعلينا جميعا أن نسهم في صنع السلام، والاستقرار في بلادنا وفي الجوار. فقد كان أسلافنا يتحدثون عن الاعتزال في الفتنة. وقد قال علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه: “كن في الفتنة كابن اللبون، لا ضرع فيحلب، ولا ظهر فيركب”. لنصنع جميعا السلام في رمضان وبعد رمضان. ولندع الله للشعب السوري، وللشعب العراقي، وللشعب الليبي، وللشعب اليمني، ولسائر شعوب الأرض، بالسلام والطمأنينة، وبقاء النفس والولد. ولنعن بإخواننا النازحين واللاجئين، الذين أتوا إلينا مضطرين، كما كنا نذهب إليهم مضطرين. وطنكم وطنكم، ودولتكم دولتكم أيها اللبنانيون. وقال تعالى: “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون* نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون* نزلا من غفور رحيم* ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين* ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم* وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم”. صدق الله العظيم. وكل رمضان وأنتم بخير