نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريراً هو بمثابة إدانة تامة للطبقة السياسية الحاكمة في لبنان. تقرير هو بمثابة “عار وطني” أنزلته السلطة بهذا الوطن. وفيه
بلغت أزمة النفايات في لبنان ذروتها عام 2015، ولم تحل حتى الآن، وجلّ ما فعلته الحكومات المتعاقبة إبعاد القمامة عن الطرقات وتغليفها بأكياس بيضاء للتخفيف من أضرارها إلى الحد الأدنى. والأسوأ أنه تم اعتماد حلول آنية وغياب خطة مستدامة في أزمة لا تقتصر على جبال النفايات، بل تشمل المكبّات المفتوحة والحرق العشوائي في أماكن مأهولة
فضيحة النفايات
تعود صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية بالذاكرة إلى عام 2015، لتفتح ملف فضيحة النفايات في لبنان، عندما تشاجرت النخبة السياسية في البلاد حول عقد مربح لإدارة النفايات، في الوقت الذي كانت فيه جبال من القمامة تغمر شوارع بيروت، مفجرةً موجة من الاحتجاجات.
كان الحل المؤقت، حسب الصحيفة، هو بناء مكبيّن جديدين. ذهب العقد الأول الذي تبلغ قيمته 288 مليون دولار إلى جهاد العرب ، شقيق أحد مساعدي رئيس الوزراء المستقيل حديثاً، سعد الحريري. حيث تنقل الصحيفة عن ثلاثة أشخاص على دراية بعمليات شركة العرب، بأن الشركة كانت تضيف الماء إلى حاويات القمامة التي تصل كل يوم، لتضخيم وزنها القابل للفوترة.
أما العقد الآخر، الذي تبلغ قيمته 142 مليون دولار، فذهب إلى داني خوري، وهو رجل أعمال مسيحي مقّرب من عائلة الرئيس ميشال عون. في هذ المكب، وجد الخبراء أن الموظفين ألقوا القمامة والنفايات السامة مباشرة في البحر الأبيض المتوسط.
خلال اتصال مع الصحيفة، نفت الشركتان هذه الاتهامات، لكن المؤكد للصحيفة الأميركية هو حقيقة مؤسفة تتمحور حول إنفاق مبلغ 430 مليون دولار على الأقل، من دون أن تصل قضية النفايات إلى أي حل.
منجم الذهب
تقول النائبة بولا يعقوبيان، التي تساءلت مراراً وتكراراً عن كيف تم إنفاق الأموال العامة على مشاريع الكهرباء والبنية التحتية، بأن النفايات تشبه منجم الذهب للطبقة السياسية اللبنانية.
لكن القضية لا تقتصر على القمامة، ولا على عدد قليل من السياسيين. فعندما ابتلع منتجع سياحي مثير للجدل يُدعى “الإيدن باي”، جزءاً من شاطئ عام في بيروت، العام الماضي، لم يفاجأ الكثير من اللبنانيين عندما علموا أن المطور لهذا المشروع هو صهر سابق لرئيس مجلس النواب نبيه بري.
يقول الخبراء، إن السبب الرئيسي وراء عدم إنتاج لبنان ما يكفي من الكهرباء لأربعة ملايين شخص، هو اللوبي القوي لأصحاب المولدات، الذي يوفر الطاقة خلال انقطاع التيار الكهربائي اليومي. وعندما ضغط جبران باسيل، لاستدراج بواخر الكهرباء التركية الراسية في الخارج، طُرحت علامات استفهام عن سبب قيام الحكومة بإنفاق مئات الملايين من الدولارات على البواخر بدلاً من بناء محطاتها الخاصة.
مجلس الإنماء والإعمار
تتم معظم الصفقات الطائفية في مجلس الإنماء والإعمار، الذي أُنشئ بهدف إعادة بناء البنية التحتية المتضررة من الحرب الأهلية في لبنان. وقد أفادت سفارة الولايات المتحدة في بيروت، عبر برقية وزارة الخارجية في شباط 2009 التي نشرها موقع “ويكيليكس” أن قواعد المشتريات في المجلس “غير شفافة”.
يدير نبيل الجسر المجلس منذ سنوات، وهو حليف لعائلة الحريري. لكن مجلس إدارته يضم أيضاً ممثلين عن مختلف الطوائف بما فيهم شقيق نبيه بري الذي يمثل الطائفة الشيعية.
يقول جاد شعبان، الخبير الاقتصادي في الجامعة الأميركية في بيروت، للصحيفة، بأنه قام بتحليل إنفاق المجلس، ووجد أن المستشفيات والطرق والمدارس وغيرها من المشاريع يتم توزيعها على المقاولين المفضلين، وفقاً للحصص الطائفية التي تضمن المكاسب لكل مجموعة، بغض النظر عن الضرورة.
لا تحدد التفاهمات الطائفية العقود الحكومية وحسب، بل تحدد الوصول إلى الوظائف الحكومية المرغوبة والمدارس والمصالح البيروقراطية، وفي بعض الأحيان الخدمات الاجتماعية. وحسب الصحيفة، فإن النظام الذي يهدف إلى تعزيز التعايش السلمي قد عزز حصراً الانقسامات الطائفية، ما جعل معظم اللبنانيين يعتمدون على “النعمة الطيبة” لقادة طوائفهم.
لذلك لم يكن مفاجئاً تحول مجلس الإنماء والإعمار في عام 2016 إلى داني خوري، وجهاد العرب، على نحو استولى خوري على مكب نفايات قديم في برج حمود، شمال بيروت، مع خطط لتوسيعه إلى البحر.
كذب وفساد
وجدت نجاة صليبا، دكتورة الكيمياء في الجامعة الأميركية في بيروت، التي فتشت مكب برج حمود في عام 2017، أن شركة خوري تقوم بإلقاء القمامة في المكب من دون فرزها، وكانت النفايات والسوائل السامة تتجه مباشرة إلى البحر، على الرغم من المتطلبات التعاقدية بفصل المواد القابلة لإعادة التدوير وإزالة المواد الخطرة.
افتتح جهاد العرب مطمراً جديداً للنفايات في كوستا برافا، ومعمليّن لفرز النفايات. ووفقاً لثلاثة أشخاص مطلعين على هذه العمليات، طلبوا من الصحيفة عدم الكشف عن هويتهم، كان العمال يستخدمون الخراطيم لإضافة الماء إلى القمامة قبل وزنها، ما يزيد من التكلفة على الحكومة.
اتصل ممثلو شركة “الجهاد للتجارة والمقاولات” التي يملكها جهاد العرب، في شهر تشرين الثاني، بالصحيفة، وأصروا على أنه تم فرز جميع النفايات بشكل سليم. لكن البيانات الداخلية للمعمل من تموز 2018 توضح أن 93 في المئة من القمامة تم ضخها في مواقع لدفن النفايات.
بدوره، نفى هشام كرامة، مدير إدارة النفايات، في شركة جهاد العرب، أن تكون الشركة قد قامت بأي حيل للتلاعب بالسعر، قائلاً إن الوزن يراقبه ممثلون عن الشركة والحكومة والبلدية ومستشارون خارجيون. ولكن اللافت، وفق الصحيفة، أنه على الرغم من هذه التساؤلات، قام مجلس الإنماء والإعمار بتجديد عقد شركة “الجهاد للتجارة والمقاولات” مراراً وتكراراً، ووافق المجلس على دفع 161 مليون دولار إضافية للشركة لتحديث وتوسيع العملية، من دون فتح الباب أمام أي عروض جديدة.
وفي حين أن رجال الأعمال والسياسيين أصبحوا أكثر ثراءً، إلا أن أزمة النفايات ازداد تأثيرها السلبي في لبنان، وهذا ما دفع الدكتورة صليبا للتعليق بالقول “لقد ضاعت أموال كل هذه الحكومات المانحة عبر تظاهر الطبقة السياسية اللبنانية بالقيام بمشروعات الإصلاح التي وصفوها بالبناءة. لكن فعلياً لم يحدث شيء”.
المصدر: المدن