احتفالنا بمولد الرسول محمد بن عبد الله (ص) هو ابتهاج بولادة يتيم اختاره الله لوحيه ورسالته، فبدل يتمه عبقرية وهاجة اشرقت على الدنيا، فحولت ليلها فجراً تاريخياً جديداً للتوحيد والحقيقة، وقلبت ضلالها ملحمة انسانية جديدة للهدى والحق، ونسخت غيها بسنّة جديدة للمحبة والحرية والعدل. فاحتفالنا كل عام بمولده (ص) ان هو الا احتفال بمولد جديد للنور العبقري، احتفال بمولد جديد للتوحيد والحقيقة، احتفال بمولد جديد للهدى والحق، واحتفال بمولد جديد للمحبة والحرية والعدل
ولا يكون احتفالنا بالمولد صادقاً، ولا يكون ابتهاجاً به فعلياً، اذا جعلناه مهرجاناً في جوامعنا، وفرقعات في منازلنا، وطلقات رصاص في ساحاتنا، بل اذا جعلناه ولادة جديدة للرسالة الالهية في نفوسنا، وولادة جديدة للسنة الرسولية في حياتنا، فيأتي الاحتفال خلقاً جديداً لذواتنا، وانطلاقاً جديداً لسلوكنا بنور الحقيقة والحق والخير والمحبة والحرية والعدل
ونحن اليوم احوج لهذه الولادة الجديدة منا في اي وقت آخر. اننا في هذا الظرف العصيب الذي نجتازه الآن، والذي نتراوح فيه بين البقاء والزوال، وبين الحرية والعبودية، وبين الكرامة والمهانة، وبين النص والذل، وبين ان نكون او ان لانكون، احوج ما نكون ونحن نحتفل بمولد الرسول (ص) ان نستوحي من رسالته وان نستخلص من سنته اسباب البقاء والحرية والكرامة والنصر، لنتحرر بها من علل الزوال والعبودية والمهانة والذل
ان الاحتفال الحقيقي بمولد الرسول (ص) هو احتفال التذكر والاعتبار والاقتداء لا احتفال الترنم والتخدر والاستخذاء. ان رسولنا (ص) هو الرسول الاسوة، وهو الانسان الاسوة، واحتفالنا بمولده هو وعي لهذه الاسوة والتزام بتحقيقها تحقيقاً فردياً وجماعياً. واروع ما يحسن بنا ان نتذكره من هذه الاسوة في الظرف العصيب الراهن، ظرف النكسة القاسية، بل ظرف المحنة الصارمة، هو ان الاسرة بسنة رسولنا (ص) هي اسوة بسنة انتصارية لا بسنة انهزامية، واسوة بسنة نضالية لا بسنة استسلامية، واسوة بسنة نظامية لا اسوة بسنة فوضوية، واسوة بسنة عقلية لا بسنة اهوائية، واسوة بسنة اخلاقية لا بسنة انحلالية. انها اسوة بسنة عبقرية خلاقة تكون الانسان تكويناً جديداً، وتصنع الانسان صناعة جديدة، لا بسنة بلهائية تصدىء حركة التاريخ وتميت الانسان حياً بدل ان تحييه ميتاً
ان سنة رسولنا محمد (ص) هي سنة انتصارية لا سنة انهزامية. وان اسوتها هي اسوة الرسول البطل لا الرسول الشهيد، وهي اسوة الرسالة المظفّرة لا الرسالة الضحية، وهي اسوة الدعوة الغالبة لا اسوة الدعوة المغلوبة. انها اسوة سياسة الحق تزكيها القوة وسياسة القوة يحكمها الحق
ان رسولنا محمد (ص) هو رسول بطولة الحق المنتصرة بالقوة الحق. انه الرسول الذي استطاع ان يبلغ رسالته لامته، وان يحققها في حياته فيحلق بها امته بل يحلق بها العالم خلقاً جديداً في اقل من ربع قرن. بمثل هذه الحقبة القصيرة من الزمن، التي تكاد تكون في عرف التاريخ كلمح البصر، وحد الرسول (ص) الجزيرة العربية، واعدها اعداداً روحياً وخلقياً وفكرياً وتنظيمياً جديداً لتوحد العالم، ولتخلف فيه امبراطوريتي فارس وبيزنطة، ولتملاء الارض توحيداً ورحمة وعدلاً بعد ان ملئت شركاً وبغضاً وظلماً.
ان هذه المعجزة التاريخية الانتصارية التي حققها محمد (ص) في القرن السابع الميلادي هي اسوتنا السرمدية. وانها تتحدانا في الربع الاخير من القرن العشرين ان نخلق انفسنا بذكراها واعجازها خلقاً جديداً يتيح لنا ان نحقق معجزتنا الانتصارية الجديدة. اننا نعاني منذ ربع قرن مأساة الانتكاس والانهزام امام العدو الاسرائيلي الغاصب. وما جرى على حدود حيّفا لأخواننا قادة المقاومة الفلسطينية منذ ايام ان هو الا وجه جديد من وجوه المأساة الفاجعة. واحتفالنا بمولد الرسول بعد ايام من وقوع المجزرة يحتم علينا ان لا نذكر المجرزة لنبكيها، وان لا نترحم على الشهداء لنندبهم، بل ان نذكرهم لنعاهدهم على اننا نستوحي سنة الرسول الانتصارية لنحول النكسة ملحمة، ولنقلب التخاذل بطولة، ولنبدل الخزى والمهانة والعبودية عزة وكرامة وحرية
ان رسولنا البطل لم ينتصر بالبكاء على اطلال التاريخ بل بتحدى التاريخ واعطائه حياة جديدة ووجهة جديدة. ونحن اليوم مدعوون لا للبكاء والعويل والتفجع على الضحايا، بل لتحدى التاريخ من جديد بولادة الانسان البطل في نفس كل منا كما ولد في نفس كل صاحب من صحابة الرسول وكل تابع من تابعيه وكل مريد من مريديه، الانسان البطل بفعله وصناعة الاشياء لا بقوله وصناعة الكلمات، الانسان البطل بروحه وفكره وخلقه قبل ان يكون بطلاً بجسده، الانسان البطل بايثاره الخير العام على الخير الخاص، الانسان البطل في تفانيه في سبيل حقه وحق امته في الوجود، الانسان البطل في الدفاع عن كل جزء من اجزاء وطنه في وجه العدوان، الانسان البطل في الانتظام صفاً واحداً مع جميع المواطنين لردع العدو، الانسان البطل المنفتح على كل ما في الدنيا من اسباب العلم والتقدم والقوة للتفوق على العدو ولا شعار العالم كله بان الاسلام هو دائماً وابداً تفوق بالحق والقوة، وان لبنان هو دائماً وابداً تفوق بالحرية والتقدم والقوة، وان العروبة هي تفوق بالعلم والاخوة والقوة، الانسان البطل الذي وسعت بطولته كل انسان، وكل شيء، وسعت الانسان المحب العادل والمنصف والسوى بالرحمة والمودة، والانسان المعتدى والظالم والغادر والفاجر بالقدرة المعاقبة والقوة الرادعة
اخواني المسلمين، اخواني الشباب
ان هذا الانسان البطل الكامن في نفس كل منكم، الذي ولد بمولد الرسول محمد (ص)، هو الذي يتحرك في نفوسكم وانتم تحتفلون بمولد الرسول البطل. فاجعلوا من هذا الاحتفال ولادة جديدة له، واجعلوا من اسوتكم بسيد الكون (ص) بطولة كلية جديدة تضعكم من جديد على صراط السنة الرسولية، لتقبلوا النكسة ملحمة، والمهانة كرامة، والعبودية حرية، والضعف قوة، والصغار شمماً والاستخذاء صموداً، والغياب حضوراً وردعاً، ولتملاءوا الدنيا امناً وعدلاً بعد ان ملئت جوراً وظلماً. هذه هي عبرة السنة الرسولية اليكم في الظرف العصيب الحاضر، عبرة انبعاث البطولة في مواجهة التحدى. ومن اولى منكم بمثل هذا الاعتبار ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة د. حسن صعب في الاحتفال بمولد الرسول محمد (ص)، في جامع الزيدانية 13 ربيع الاول 1393 الموافق 16 نيسان 1973