في خضمّ الأزمات المتتالية التي يشهدها لبنان، يبرز معاناة فئة عزيزة على قلوبنا، ألا وهم الأطفال والنساء وكبار السن. فبين دمار الحروب وأصوات الانفجارات، تتأرجح نفوسهم بين الخوف والقلق والحزن. كيف تتأثر هذه الفئات بهذه الأحداث الدامية؟ وما هي التداعيات النفسية التي تترتب عليها؟ أسئلة تطرح نفسها بقوة في ظل هذا الواقع المرير.
تترك الأحداث الدامية، سواء كانت حروبًا أو كوارث طبيعية أو أعمال عنف، آثارًا عميقة ودامغة على الصحة النفسية للأفراد والمجتمعات. هذه الآثار تتعدى الصدمة الأولية لتشمل مجموعة واسعة من التفاعلات النفسية والسلوكية التي قد تستمر لفترات طويلة.
وهنا يجب التركيز على ثلاث فئات من الناس، وهم الأكثر عرضة للاضطرابات النفسية في مثل هذه الأزمات، كبار السن والأطفال، الناجون المباشرون، المسعفون والعاملون في المجال الإنساني (المستجيبون الأوائل).
أولئك الذين تعرضوا للأحداث الدامية بشكل مباشر يزداد خطر اصابتهم بـمجموعة واسعة من المشاكل النفسية ولعل أبرزها، اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD): الذي يتضمن أعراضًا مثل استذكار مشاهد أليمة (flashback)، الكوابيس، تجنب المثيرات المرتبطة بالموقف الصادم، اليقظة والتنبه العالي (hypervigilance). كما يعيش هؤلاء الأشخاص شعور بالحزن الشديد، وفقدان الاهتمام، وتغيرات في الشهية والنوم الى جانب الشعور الدائم بالقلق من تكرار الحدث الكارثي، وردود الفعل العنيفة والعدوانية على أبسط الأمور، وهذا ما يعرف من الناحية العلمية النفسية بالاكتئاب.
“حسين أبن الثلاثين عاماً لم يستطع أن ينسى لحظة الغارة العنيفة على الضاحية الجنوبية. في كل ليلة، يعود إلى تلك الليلة المظلمة، يرى الومضات النارية، يسمع الصراخ. أصبح كل صوت مرتفع يذكره بذلك اليوم، وصار يعيش في حالة من اليقظة الدائمة، خائفًا من أي صوت مفاجئ. لقد أصيب حسين باضطراب ما بعد الصدمة، واضطرت حياته إلى التوقف عند لحظة الغارة.” أما الأطفال فهم من أكثر الفئات عرضة للتأثر بالأحداث الدامية، فإلى جانب معاناة القصف والدمار تأتيهم المأساة الكبرى المرافقة للحروب، وهي النزوح القسري الذي يعتبر أحد أكثر التجارب المؤلمة التي يمكن أن يمر بها الإنسان، وبالنسبة للأطفال، فإن هذه التجربة تترك آثارًا نفسية عميقة ودامغة قد تستمر معهم طوال حياتهم، وقد تؤثر على نموهم وتطورهم. فالنزوح القسري وفقدان المأوى والأمان والأهل، يحول حياة الطفل من البراءة الى دوامة من الصراعات الداخلية.
أكدت دراسات عدة أن الأطفال الذين يعيشون في مناطق النزاعات والحروب يعانون من مجموعة واسعة من المشاكل النفسية، والتي تتفاقم مع طول فترة النزوح، ومن أبرز هذه المشاكل، الخوف والقلق حيث يعيش الأطفال النازحون في حالة من الخوف المستمر من تكرار الأحداث المؤلمة، مما يؤثر على نومهم وتغذيتهم وتركيزهم مما يؤدي بهم الى الاكتئاب والحزن بسبب فقدانهم للمنزل والممتلكات والأصدقاء والأهل، الأمر الذي يدفع الأطفال إلى الشعور بالحزن واليأس، مما يؤدي إلى الانسحاب الاجتماعي وفقدان الاهتمام باللعب. وهذا ما يجعل الطفل يعاني أيضاً من صعوبات في التعلم والتكيف، فالأطفال النازحون يواجهون صعوبات في التكيف مع بيئات جديدة ومختلفة، مما يؤثر على قدرتهم على التعلم وتكوين علاقات اجتماعية جديدة. هذا الى جانب ما يعانون منه فيما يخص اضطرابات في النوم، مثل الأرق والكوابيس، نتيجة للصدمات التي تعرضوا لها، والمشاكل السلوكية التي قد يظهرها بعض الأطفال من سلوكيات عدوانية أو عنيفة، فيما يلجأ البعض الآخر إلى الانسحاب الاجتماعي كآلية دفاعية.
“لعبت الصغيرة سارة بالدمى في حديقة منزلها، فجأة، تحولت اللعبة إلى كابوس. سمعت صوتًا مدويًا هز الأرض، ورأت الدمار من حولها. منذ ذلك الحين، صارت سارة تخاف من الأصوات العالية، وتلجأ إلى الزاوية وتبكي. الأطفال، براءة وأحلام، هم أول ضحايا الحروب والكوارث.” ومن هنا، يعتبر التدخل النفسي للأطفال المتأثرين بالحروب أمراً بالغ الأهمية لمساعدتهم على التعافي من الصدمات النفسية التي تعرضوا لها. على أن يخضع المتخصصون الذين يعملون مع الأطفال المتأثرين بالحروب إلى تدريب مستمر على أحدث التقنيات والأدوات. وأن يكونوا قادرين على التعامل مع المشاعر المعقدة التي يمر بها الأطفال. كما يجب أن يتم تنفيذ برامج التدخل النفسي للأطفال المتأثرين بالحروب بشكل منهجي ومتكامل، وأن يتم تقييم فعاليتها بشكل دوري. وهناك مجموعة متنوعة من الأدوات والتقنيات التي يمكن استخدامها في هذا السياق، والتي تختلف باختلاف عمر الطفل وشدة الصدمة التي تعرض لها.
ومن أبرز تقنيات العلاج المتعارف عليها بين مقدمي الخدمات النفسية:
العلاج باللعب: تعتبر هذه التقنية فعالة جداً مع الأطفال، حيث تسمح لهم بالتعبير عن مشاعرهم ومخاوفهم بشكل غير مباشر من خلال اللعب. يمكن استخدام الألعاب والدمى والألوان والأشكال المختلفة لمساعدة الطفل على استكشاف تجاربه المؤلمة والتعبير عنها بطريقة آمنة. العلاج بالفن: يشبه العلاج باللعب، ولكنه يركز على استخدام الفن كوسيلة للتعبير عن الذات. يمكن للأطفال الرسم والتلوين والنحت لتصوير ما يشعرون به. العلاج السلوكي المعرفي: يهدف هذا النوع من العلاج إلى تغيير الأفكار والسلوكيات السلبية التي تطورت نتيجة للصدمة. يتم ذلك من خلال تدريب الطفل على مهارات جديدة مثل الاسترخاء وإدارة الغضب. العلاج الجماعي: يمكن للأطفال الاستفادة من التفاعل مع أطفال آخرين مروا بتجارب مماثلة. يساعد العلاج الجماعي الأطفال على الشعور بأنهم ليسوا وحدهم وأن هناك آخرين يفهمون ما يمرون به.
ولعل أبرز التقنيات الحديثة التي لابد من الحديث عنها في هذا القبيل هي تقنية التدخل النفسي بالعالم الافتراضي (virtual reality)، ماهي هذه التقنية وكيف يمكن أن تساعد أطفال الحرب في تخطي أزماتهم النفسية؟ تقنية العالم الافتراضي في العلاج النفسي هي أسلوب علاجي مبتكر يستخدم بيئات محاكاة ثلاثية الأبعاد لمساعدة الأشخاص على مواجهة مخاوفهم وتحدياتهم النفسية في بيئة آمنة ومُسيطر عليها. هذه التقنية تتيح لطالب الخدمة التعرض للمواقف التي تسبب له القلق أو الخوف بشكل تدريجي ومُسيطر عليه، مما يساعده على تطوير آليات جديدة للتعامل مع هذه المواقف. تعتمد هذه التقنية على ارتداء طالب الخدمة نظارة خاصة تعرض صورًا ثلاثية الأبعاد تحاكي بيئات مختلفة، مثل الأماكن المرتفعة، الأماكن المزدحمة، والأماكن التي تتعرض للقصف، ويمكنه التفاعل مع هذه البيئات الافتراضية، مما يجعله يشعر وكأنه موجود فيها بالفعل. يعمل المعالج النفسي على تصميم هذه البيئات وتعديلها لتناسب احتياجات كل فرد على حدة. يعود أصل استخدام العالم الافتراضي في العلاج النفسي إلى التسعينيات من القرن الماضي. ومع ذلك، شهد هذا المجال تطوراً كبيراً في السنوات الأخيرة مع تطور تقنيات العالم الافتراضي وزيادة الاهتمام بها. اذاً تعتبر تقنية العالم الافتراضي أداة قوية وواعدة في مجال العلاج النفسي. فهي تتيح لطالب الخدمة مواجهة مخاوفهم وتحدياتهم في بيئة آمنة ومسيطرة، مما يساعدهم على تحقيق تحسن كبير في حالتهم النفسية. ومع استمرار تطور هذه التقنية، من المتوقع أن نشهد المزيد من التطبيقات المبتكرة في مجال الصحة النفسية. وفي الحديث عن هذه التقنية لابد من تسليط الضوء على اللبناني فؤاد منذر، أخصائي نفسي عيادي، رئيس الأبحاث والدراسات في شركة أكس أر ابي اللبنانية، السباقة في إدخال هذه التقنية الى لبنان والتي تضع كل خدماتها مجاناً في تصرف العائلات النازحة لتقديم العون النفسي الضروري، كان لا بد من إجراء مكالمة هاتفية معه للتعرف أكثر على هذه الخدمة ومميزاتها، فقال: في هذه الأوقات الصعبة لا يمكننا نحن كمتخصصين في الصحة النفسية ان تخوننا الكلمات، او ان نقف عاجزين عن التعبير. حيث ان هذا الزمن هو الزمن الذي تعلمنا لكي نقف الى جانب الناس ونساعدهم في تخطي ما يمرون به من أفكار ومشاعر قوية. فتدخلنا اليوم هو الأساس لضمان مستقبل الطف لناسنا واهلنا. اليوم لا أريد أن أكرر ما يتم نشره من قبل النفسانيين من نصائح وارشادات نفسية لكيفية التعامل مع هذه المواقف الضاغطة علينا، انما أريد أن ألفت نظر الأهالي الى وسائل متوفرة ومؤثرة في حياتنا ونستخدمها بشكل يومي وتساعدنا على تخفيف الكرب الذي نعيشه. ولعل أبرزها التكنولوجيا وبالتحديد الأجهزة الذكية من هواتف وحواسيب والأجهزة التي تستخدم الذكاء الصناعي والعالم الافتراضي، في البداية من الضروري ان أتكلم عن اهداف هذه الأجهزة وكيفية عملها. فكل هذه الأجهزة تم برمجتها لهدف اساسي وهو جعل حياة الانسان أسهل من خلال تأمين ما يسعى للحصول عليه من معلومات او خدمات او أغراض بطريقة سهلة. وعلى الرغم من ان هذا سلاح ذو حدين الا انه بالوعي الصحيح يمكن ان نسخر هذه التكنولوجيا لصالحنا فقط. فهنا وانطلاقاً مما تقدم وكون هذه الأجهزة والبرامج تم استثمار الكثير من الأبحاث والأموال من اجل جعلها مؤثرة وفعالة على المستخدم، سأوضح لكم كيف يمكن استخدامها من أجل العمل على تحسين الصحة النفسية، وخصوصاً على ضحايا الحرب وتحديداً الأطفال منهم.
في لمحة سريعة على أساليب الدعم النفسي التي تعمم وتنتشر في هذه الأوقات من قبل زملائنا في حقل العلاج النفسي نرى باختصار انهم يتحدثون عن ثلاث نقاط مهمة للتدخل، وهي تقوم على الاعتراف بالمشاعر القوية التي يمر بها الانسان وأنها طبيعية وسوف تنصرف بعد مدة، ان الفرد ليس وحده وما يمر به هو نفس الوضع الذي يمر به معظم الناس من حوله، وانه ليس من الضروري ان يعيش الفرد هذا الضغط بمفرده وهناك العديد من الأشخاص والمتخصصين والخدمات يمكن ان يستفيد منها، عند تحقيق هذه النقاط يمكن للفرد أن يبدأ بالسير على الطريق الصحيح نحو الراحة النفسية. ولكن كيف ستتداخل التكنولوجيا وهذه النقاط؟ وكيف يمكن للواقع الافتراضي من لعب هذا الدور؟
اهم العوارض التي نلتمسها كنفسانيين، لدى الأشخاص الناجين من الحروب بمختلف الأعمار وتحديدا لدى الأطفال عارض التجنب، وهذا العارض يجعل من الشخص انطوائي ويهرب من اي شيء يعيده إلى هذه الذكرة مما يخلق صعوبة كبيرة في امكانية التدخل معهم للمساعدة النفسية الضرورية.
انطلاقا من هذا العارض، وبما ان التكنولوجيا والعالم الافتراضي مصبوغ لدى الاطفال في إطار الترفيه واللعب، نستخدم تقنية العالم الإفتراضي في التدخل النفسي لاستدراج الأطفال لكسر عارض التجنب والتمكن من العمل على مواجهة المثيرات والذكريات والمخاوف ضمن إطار رقمي، افتراضي مسيطر عليه، آمن وموجه من خلال اخصائيين ليتمكن هذا الطفل من خلال اللعب من مواجهة الواقع لكسر مخاوفه.
هذه التقنية، هي تقنية التعرض او مواجهة الشخص بمخاوفه، وهي تقنية مثبتة علميا وليست حديثة ومستخدمة ضمن التدخلات العلاجية في شتى المدارس ومنها العلاج السلوكي، وجميع الإحصاءات تعتبرها من انجح التدخلات في علاجات الصدمات الناجمة عن الحروب، إلا ان استخدامها من خلال التكنولوجيا هو المستحدث، ويشكل طريق أسهل لتقبل التدخل من هذه الفئات.
كذلك، يمكن ان نستخدم التكنولوجيا في التعبير عن مشاعرنا وان نعيشها بطريقة سوية من خلال تأمين مجال مناسب للتفريغ والتعبير عنها ومشاركتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. كما يمكن استخدام تقنية العالم الافتراضي والتي استخدمها في تدخلاتي العلاجيّة لخلق مكان افتراضي للمستخدم يشعر به بالراحة والسكينة من اجل ان يكتشف مشاعره الضاغطة ويعبر عنها بالطريقة التي يراها مناسبة، فمن الممكن أن نعيد الطفل من خلال العالم الإفتراضي الى غرفته التي أجبر على النزوح عنها، ليشعر مجدداً بالأمان ويتمكن من التعبير عما في داخله (تمارين لتعزيز الاتزان الانفعالي). أما بالنسبة للنقطة الثانية، وانطلاقاً من فكرة العالم الرقمي وهو عالم كامل وموازي لعالمنا حيث يمكننا ان نرى أوجه اشخاص يمرون بنفس المواقف التي نمر بها وبالتالي يمكن ان نشكل مجموعة دعم تساعدنا اولاً على التضامن في مواجهة الصعوبات. وهنا اريد ان اشير ان هذا الموضوع يمكن للفرد ان يعيشه في العالم الافتراضي (Metaverse) من خلال الاجتماع عن بعد. وبعد ان يتجسد في هذا العالم (Avatar) خاص به يستطيع الفرد ان يتكلم ويشارك ويعبر امام اشخاص اخرين يمرون بنفس الظروف الصعبة، ففي الواقع لن يتمكن الأطفال من التعبير مع بعضهم البعض بأريحية والتحدث عن هذه الفاجعة، كما في بعض الأحيان يشكل المعالج النفسي هاجسا بالنسبة لهم، فيما يوفر العالم الإفتراضي هذه البيئة المريحة لهم للسير قدماً. ثالثاً وباستخدام هذه التكنولوجيا يمكن ان ندلل ونشرح للفرد في العالم الافتراضي كيف يمكن ان يستفيد من الخدمات المتوفرة وحتى اننا يمكننا ان نجسد توقعاته بطريقة منظورة باستخدام برامج حاسوبية يقدم في العالم الافتراضي.
ونحن اليوم في بيروت نحرص على تقديم هذه الخدمة لجميع الأفراد الذين يحتاجون للتدخل النفسي وبشكل مجاني لمساعدتهم على تخطي الصدمة، الفوبيا والقلق الذي يعيشونه جراء الأزمة الآنية التي يمر بها وطننا الحبيب لبنان.
“تقول كاترينا أم أكرانية: لقد فوجئت ابنتي خلال تصفحها لموقع أمريكي يقدم التدخل النفسي الإلكتروني بالعالم الافتراضي برؤية العديد من أعراضها التي عانت منها قبيل الحرب الأخيرة، موجودة لدى أطفال آخرين ويعبرون عنها من خلال التطبيق. لقد استمعت إلى الوحدات ووجدت أنه من المطمئن أن تعرف أنها ليست وحدها، وهناك استراتيجيات يمكنها استخدامها بمفردها وممارستها في وقتها الخاص. لقد كانت تتلقى بعض الاستشارات وأعجبتها أنها كانت عبارة عن تطبيق يمكنها استخدامه عندما يناسبها – وليس ضغوط رؤية المعالج.”
إذا في عصرنا الحالي، الذي تسيطر فيه التكنولوجيا على حياة أطفالنا، يمكن أن نستعمل هذا العالم الواسع في مساعدتهم على التعافي من صدمات الحرب، وفي الختام نشدد على أن التدخل النفسي المبكر للأطفال المتأثرين بالحرب هو استثمار في مستقبل أكثر إشراقاً. كل يوم نتأخر فيه عن تقديم الدعم النفسي اللازم، نفقد فرصة لتخفيف معاناة هؤلاء الأطفال وبناء مجتمعات أكثر استقراراً، وبما أن التطور التكنولوجي الذي يجذب أطفالنا يُظهر تقنيات مثل العالم الافتراضي التي اثبتت إمكاناتها الهائلة في علاج الصدمات النفسية. يجب علينا الاستثمار في هذه التقنيات وتوفيرها على نطاق واسع لضمان وصول أكبر عدد ممكن من المتضررين إلى الرعاية الصحية النفسية.