تَعمُّ الفوضى أرجاء الكوكب اللبناني. فوضى في السياسة وتأليف الحكومة. فوضى في الغذاء، فوضى الدولار والتسعيرات المتطايرة من برامج ذكية “مجهولة المصدر”… لكن ما لا يمكن فهمه، ان يتحوّل المسؤولون عن كبح جماح الفوضى إلى فوضويين متهورين!
وصورة الفوضى المحلية لا بدّ لها ان تنعكسَ على عمل المؤسسات.. هي الفوضى التي أتاحت لعشرات السجناء في نظارة قصر عدل بعبدا أن يفرّوا جماعياً ويتسرّبوا عبر خرم إبرة الأمن إلى مجتمع “مفخوت”، الفوضى نفسها التي لم تحدّد المسؤولين رغم مرور ٥ أيام على الواقعة فيتم تقاذف التهمة من مسؤول إلى آخر. هي نفس الفوضى التي حوّلت محمد ع.ع. حمّود من موقوف في نظارة قصر عدل بعبدا إلى فار مفترض من وجه العدالة برتبة مطلوب درجة أولى، رغم أنه كان وما زال أسير زنزانته ولم يغادرها!
إنها أزمة عدّ في دولة ما برحت ثقافة العدّ. القصة بدأت حين استيقظَ الأمن من هول الفرار الكبير، فبدأ العد. ٦٩ هو الرقم الذي استقرّ عليه عدد الفارين بحسب الاحصائية الامنية من أصل ١٢٨ موقوفاً. هؤلاء، جرى التعامل معهم كمطلوبين فوق العادة. وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي يقول أن نسبة التأهب الأمني بلغت ١٠٠/١٠٠ والهدف البحث عن الفارين.
مطلوبون عمّمت صورهم في كافة ارجاء البلاد. تمّت مداهمة منازلهم ومنازل اقربائهم وجيرانهم ومعارفهم وكل من يتم إليهم بصلة ولو عابرة. اضحى كل من يرتبط بعلاقة ما مع موقوف فار مصدراً للشبهة. “التحري” ينغل في كل مكان بحثاً عن موقوف.
إلّا ان قضية الموقوف محمد .ع.ع. حمود الذي اوقف قبل فترة واودع سجن نظارة بعبدا، مسألة خاصة ملفتة للنظر تكاد تكون استثناءاً. الرجل الخمسيني الذي يُعاني من مرض عُضال ويحتاج إلى علاج دائم ومبتلي بـ”شلل نصفي”، عمّم اسمه وصورته ضمن قائمة الـ٦٩ كفار، ليتبين لاحقاً انه ما خرج من زنزانته قط! هنا، كيف لـ”مشلول” ان يفرّ من السجن سيراً على الاقدام؟ انها معضلة!
أيام مرّت على اختفاء محمد حمود، لا إتصال ولا معلومة، والقلق يُسيطر على ذويه. ما زاد الطين بلّة تصرّفات رجال الأمن واسلوبهم في البحث عن المطلوب التي اتسمت بالعنف الشديد، وفق رواية الاهالي. دفع كل ذلك ذوي حمود للجوء إلى وكيله القانوني المحامي علي محبوبة في محاولة منهم لاقتفاء اثره، لكن لم يحدث شيء. طيلة أيام من التواصل استقرّ الرأي الأمني عند فرضية أن حمود فرّ مع الفارين واختفى. مسألة لم تقنع، لا المحامي محبوبة المطّلع على أحوال موكّله، ولا عائلته التي تُدرك أن شخصاً يُعاني من كل هذه الامراض لا قدرة له على الفرار.
استوطنت عقل المحامي محبوبة فكرة قادته الى الظن بوجود التباس يخيّم على القضية في مكان ما. تحرّك سريعاً بإتجاه محاولة فهم ما يجري. محاولات المحامي محبوبة كوّنت انطباعاً مبدئياً أن الموقوف المتهم بالفرار والمعمّمة صورته عند كل نقطة أمن، ما زال موقوفاً في مكانه. مع ذلك، كان يحتاج إلى دليل. نشط على الخط الأمني وبوكالته القانونية تواصل مع المسؤولين عن نظارة قصر عدل بعبدا، وبعد أيام من البحث “في كومة القش” عُثر على حمود في إحدى الزنزانات، محاطاً بخصوصية أمنية، يجهل ما يجري حوله وسرّ تغيّب اهله عنه! في المقلب الآخر، بدا الأمن حريصاً على عدم إظهار حقيقة ما حصل، ورمي المسألة على “خطأ شائع”! هكذا، تحول سجين إلى ضحية رقم وخطأ وسوء عدّ!
يؤكد المحامي علي محبوبة لـ”ليبانون ديبايت” أن موكّله محمد ع.ع. حمود لم يكن وفي أي حال من الأحوال في عداد المجموعة التي فرّت من السجن. حالته الصحية لا تمكّنه من أداء هذا الدور بتاتاً حتى ولو توافرت لديه النية. يشكو حال ذوي الموقوف حمود وما تعرّضوا له طيلة أيام من سريان فكرة الفرار، ويستغرّب أن يجري طمس الخطأ الذي وقع به المعنيون في العد وترك المسألة وكأن شيئاً لم يكن ومن دون إبلاغ ذوي الموقوف بما حصل أو حتى الاعتراف، وهم، اي المولجون متابعة أحوال المساجين، يعلمون مدى دقة حالته الصحية وضرورة خضوعه لعلاج يومي من مرضٍ عضال.
ما جرى مع الموقوف حمود، يضعه محبوبة في عهدة وزير الداخلية محمد فهمي ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان. يبقى السؤال، لماذا تمّ إخفاء وضع حمود عن ذويه وعدم الاعتراف بوقوع خطأ فادح من قبل الجهة الأمنية؟
هذه المعضلة تجرّنا إلى حالة أخطر، وهي إحتمال ضم اللوائح أسماء لاشخاص قيل أنهم متواجدين ضمن عداد الموقوفين وقد يتبين في حالة التدقيق لاحقاً عكس ذلك. قد يقود ذلك كله إلى إحتمال وجود حالات مشابهة لحالة الموقوف حمود ربما. القضية كلها تحتاج إلى جرأة للاعتراف بالخطأ، وفي ظل غياب الرواية الحقيقية يُصبح كل شيء خاضعاً لدائرة الشك.