فلنصمت كلنا ونتعظ…كبيرة رحلت بعد أن عتقها الزمن من دون أن يعدنا بأنه سيجود بمثلها في المنظور القريب. فالإمدادات العليائية قننّت نظراً لبطر أهل الأرض، فهم بالفطرة ناكرو لمعروف، جاحدو لنعمة، عقوقو لجميل منذ التفاحة الأولى وهلم جرا…الخشية والريبة تغتمران الغالبية، وحجم الخسارة وإن سارت بهوادة نحونا إلا أنها أرخت بثقلها ونئنا نحن تحتها…كلنا…أما بعض من كلنا… ففي المعسكر المواجه، قوّالو المُعنّى وغربان البين رثوا وانتحبوا ومثّلوا الدراما، هم أنفسهم مروّجو شائعات منية الأمس القريب وسخافات النكات…نصفهم شعوبٌ من آفاكين منافقين
منذ ساعة مآثرتها الإبتعاد القسري وهم يحسبون عليها النفس والأوكسيجين وكأنها تسحبه من بين الرئات…كاذبون هم مهما حاولوا التخنس (تيمناً بالخنساء). مراؤون مهما تصنّعوا التفجع. قتلوا الفرح التاريخي ومشوا بجنازته. جنازة صباح مصطلحان لا يتفقان، لا يقبلان بمنطق التعود على الأشياء والتطبع مع الواقع…عفواً: عرس صباح-زفة صباح-مهرجان ما قبل الإعتزال-نعم:تسميات تليق بمن طاردها الضوء وحتى في سريرها…بئس المطاردون لنعم المطارَدين…عرسها البيروتي لم يكلف سوى آلو واحدة على الملأ حتى لبى محبون حقيقيون نداءها والرغبة…رغبة تلك التي لا ينتمي لصباحاتها حزن وريث ليل مكفهر أو إستيقاظ بمزاج ملبد…رغم عجافة السنين على كل من تخور قواه ويبدأ إبريق زيته بالشح، لم يأفل نجمها البتة وهي التوهج السابق لصاحبته قبل الطلة مُرحباً بهالطلة
كثيرات تغتصبن المسرح وهو يناجي أخرجوها بعكس صباح، مسرحها ينتشي ويطلب المزيد…سرٌ ولغزٌ لذا أمست أسطورة…بقاؤها حية كان صمام أمان للشارع الفني بأن ثمة من ترقد في سرير لكنها تهز ساحة بيد خبرتها وحكمة سنيها. إسمها ظل كفيلاً برنة تشدق لها الأفواه إبان الذكر وتترسم بسمة على شفاه كردة فعل عفوية عند رؤية الصورة…بيروتية هي بخيباتها والتغلب-قاهرية هي بعتقها والبهاء-باريسية هي بسحرها والأنوار-لندنية هي بخصوصيتها والضباب-مدن أسرارها تجوب في إمرأة وسرها هالة على مسرح العز وسرير العجز…ذكاؤها مدها بوقودً لتسعة عقود خلت، مذ سميت بصباح وحتى لحظة غروب ذاك الأحد الدامي…جزمت فيروزتنا بأن شمس صباح لن تغيب وأم زياد، من تنسك صومعتها تخرج مانشيتات عبر قراءات وقرارات…غينيس يغلي لإدخال أسطورتها وهم الرابحون والمضاف لأرقامهم…نجوم مصر تقاطروا وتقاسموا “الفرح الحزائني” معنا…لهم بصباحنا مثلنا وأكثر…بالجنسية والفن والإرث والتراث والأهم برائحة العمالقة المنسحبين…ذكاء تلك اللبنانية/المصرية في ميدان الفن عامة حيث العين واللسان والفبركة والطعن والحسد والنميمة وعشرات التسميات صنفها أولى بين “أغوال” الكار وأسياده…رحلت ورحيلها مقلق اليوم بحجم طمأنينة زمان في زمن يتهاوى فيه الكبار والحاضرون كثيرو الحركة قليلو البركة…تجارب غالبيتهم كمية وليست بنوعية، نجومية معظمهم آنية وهشة. الفن المذهب إتكأ على أسماء خلدها زمنها ليبقى هو متربعاً على حجتها…رحيل “الصباح” مدو وصاعق ولو كان متوقعاً بحكم القدر…وفاؤنا قليل ومتوقع بحكم طبيعة البشر…دعونا من الإعلام الإستنفاعي الذي “وإن حكى لساعات وساعات” وبعد نفض غبار الرحيل نصحو على ما أشد هولاً من الصدمة…نستفيق على شقيقتها الكبرى:”خيبة مروعة”…الفن قد يكون مجداً باطلاً إلا من نوادر العمالقة وإلا ما خلدوا، والدليل أنه ملاك الموت غيّب جانيت ولم يتمكن من صباح. نعى سعيد عقل ولم يجرؤ على قدموس وفينيقه. لعبة تستمد من ذكاء يصادف فقط الإستثنائيين في العمر، وهم ندرة وصباح أولهم…هذه هي الصبّوحة وأمثالها الذين عاصرناهم وسنسلمهم أمانة لأجيال…فرح متنقل جاب الأصقاع بحنجرة أحببناها حتى الإدمان اللذيذ ولن نقلع يوماً عنها وبمحض إرادتنا وبطيب خاطرنا لأن نوعه مغر، ممائل لإدماننا ذاك “اللبنان”
كان البعض يريدها أن ترتاح، لكنها لم تتعب ولم تنضب ينابيعها ولم تذبل شجرة روحها ولم تصفر أوراق قلبها ولم يعرف الخريف طريقاً إلى عمرها المتجدّد ربيعاً تلو ربيع حتى آخر رمق لأنها عرفت كيف تعانق الحياة بطولها وعرضها وكيف تستميلها نحوها وتخضعها لمحض إرادتها، فكانت دائماً أقوى من الأيام
إنتقلت “شمس عمري” كما كان يحلو لي أن أناديها إلى العالم الآخر بهدوء بعد أن توقّف قلبها صباح السادس والعشرين من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، وإستقبلت الموت بأناقة معتادة بلا خوف أو تردد، إيماناً منها أن ما قدمته على هذه الأرض كان فعلاً يستحق الحياة
اليوم في الذكرى الثانية لرحيلك، سننتظر أجراس الكنائس وصدى المآذن كي نعلن أن عشقنا لك هو أقدس المفارق وأقصرها إلى إيمان كامل وكي نهديك كل أحلامنا وأمنياتنا وأفكارنا وعمرنا وذكرياتنا التي كنت بطلتها…كل عام وأنت معنا دائماً وأبداً…كل عام وأنت حبيسة القلب حتى آخر دقات القلب. فالكلمة تحلو حين تكونين محورها ومضمونها لأنك الأجمل والأغلى والأرقى والأنقى…أنت الوحيدة التي أنحني أمام عظمة إنسانيتها وفنها إجلالاً وإكباراً وأقبل يدها إحتراماً وتقديراً وتعبيراً عن محبة لا يعيقها زمان ولا يحدها مكان…هذه اليد التي كانت قادرة بإشارة منها أن توقف الأرض عن الدوران
من موقع “أنت وين” ننثر على ضريحك يا صبّوحة ورود الجنة كلها وندعو لك بالرحمة والمغفرة ونطلب منك أن تبقي عينك من عليائك على وطنك الحبيب لبنان الذي رفعت إسمه في العالم أجمع بأخلاقك وفنك وصوتك الذي سيبقى يصدح في كل زمان ومكان إلى أبد الأبدين