أهلا بكم في جمهورية الاذلال. ليس أبلغ من هذه العبارة لوصف حالنا في خلال الساعات الـ 24 الماضية… وكأن أزماتنا المتناسلة التي بلغت، بتعقيداتها، حد نحرنا أو دفع بعضنا إلى الانتحار يأسا، لا تكفي لتذكرنا أن لعنة ما حلت علينا وقذفتنا إلى بلاد لا تتقن إلا الامعان في إذلالنا وقهرنا ودفعنا إلى ذرف الدموع والتعايش مع اليأس والبؤس
ذلك أننا شعب لا يخجل القابضون على زمام الحكم- المفترض أن يكون رشيدا- والذين يطلقون بكل ثقة على أنفسهم لقب “مسؤولين” أن يكبدونا ثمن قصر نظرهم وعجزهم وفشلهم واستهتارهم المهين بكرامتنا وقيمتنا الانسانية. ولا نجد أفضل من مشهد الطقس العاصف أمس مثالا للدلالة إلى ذلك.
قبل العودة إلى “النكبة” التي ضربت لبنان في الساعات الماضية، لا بد من استعادة بعض البديهيات: كبرت أجيال كاملة من اللبنانيين، وبينهم من باتوا اليوم في موقع المسؤولية عن مصائر الناس وحياتهم، على دروس الجغرافيا التي تفيد بأن مناخ لبنان متوسطي معتدل. وهو ما يعني أن الأمطار أمر طبيعي في بلادنا، خصوصا في الفترة الممتدة بين كانون الأول وآذار
في بلاد تحترم نفسها وشعبها، يتوقع أن يبادر القيمون على الأشغال العامة، إلى اتخاذ التدابير الكفيلة بتجنيب المواطنين كارثة كالتي مني بها الناس أمس في وطن الأرز…. غير أن أصحاب هذا الاعتقاد حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء، ليس أقلها أننا في لبنان، حيث تنتفي كل معايير الدولة المحترمة لتحل محلها سياسات الترقيع والحلول الآنية. إلا أن الأدهى، أن أمام الكوارث والنكبات من هذا العيار الثقيل، لا يستحضر حس المسؤولية، بل تظهر فورا التبريرات المعلبة الجاهزة التي ما عادت تنطلي على أحد، معطوفة على تقاذف معيب ومهين للمسؤوليات. لا لشيء إلا لأن هناك، في أروقة دولتنا، من ينام على حرير غياب المحاسبة الفعلية والعقاب.
ولم تخرج الصورة المعيبة التي قدمها وطن الأرز للعالم عن هذه القاعدة: صدقت توقعات مسؤولي الأرصاد الجوية الذين قدموها منذ أكثر من أسبوع، فحل منخفض جوي كانوني طبيعي لهذه الفترة من السنة على لبنان، ذي المناخ المعتدل، مصحوبا بأمطار شديدة الغزارة، وعواصف رعدية… فكان أن غرقت الطرقات والناس والسيارات وحتى… المنازل وموجوداتها وأثاثها بمياه السيول الجارفة، فعلق الناس على الطرقات لساعات، فيما قضت مياه الأمطار على أرزاق بعضهم، والسقوف التي تقي آخرين برد شتاء يعدنا بأنه سيكون قاسيا.
في بلاد “حضارية” تحترم نفسها وشعبها.. من المفترض أن يقود مشهد كهذا المسؤولين المعنيين إلى الإستقالة.. لكن الاذلال الموصوف في وطننا لا يتيح لنا، نحن المواطنين، أن يبلغ طموحنا هذا الحد من الرقي في التعاطي معنا واحترامنا… صار جل ما نطلبه أن نعرف من المسؤول عن بلوغ إذلال الناس في هذه البلاد هذا المستوى. لكن الصدمة أتتنا من حيث لا ندري: خرج وزير الأشغال العامة والنقل يوسف فنيانوس علينا بعذر، حيث أعلن في مؤتمر صحافي كان من المنتظر أن يضع النقاط على الحروف أن “البنى التحتية منذ 50 سنة لا تستوعب كمية المتساقطات، ولا التغييرات السكانية التي سجلت في الآونة الأخيرة”، مشددا على أنه لا يتهرّب من مسؤولياته. لكن كل هذا كلام لا يصرف في أي مكان، حيث أن وزارة الأشغال هي المسؤول الأول والأخير عن البنى التحتية وهذا دورها ومهمتها الأساسية فلمَ لم تعد الوزارات المتتالية الى تأهيل هذه البنى بما يتناسب مع التطور والنمو؟ لكن هذا قد يكون مجرد تفصيل غاب عن بال الوزير فنيانوس، لكن الأهم أن الناس باتوا اليوم في مكان مختلف… باتت لهم ثورتهم التي تثبت خطايا السلطة كالتي ارتكبتها أمس، أحقيتها وضرورة استمرارها حتى النهاية… أي حتى الإتيان بوزراء اختصاصيين قادرين على تطبيق مقولة إن “الحكم استشراف”، وعلى تجنيبنا مرارة كأس الفشل التي نتجرعها يوميا منذ أكثر من ثلاثة عقود، وبطبقة سياسية تحترمنا وتؤمن لنا دولة تستحق أن نمضي أعمارنا فيها، نحن الشعب الرائع الثائر في الساحات منذ أكثر من خمسين يوما، وقد أضنتنا فعلا رحلة البحث عن وطن على قدر آمالنا، بعدما استهلكت من حياتنا أحلى سنيها