لا تزال «حقوق الطوائف» في لبنان تأخذ حيّزاً كبيراً من النقاشات السياسية. المسيحيون، منذ انتهاء الحرب الأهلية، يشعرون بأنّهم فقدوا «دولتهم» وبأنهم يُعانون من غُبن، فابتعد قسمٌ كبير منهم عن كلّ ما يمتّ لها بصلة. استسهلوا الهجرة، فانحسر عددهم، ثمّ أسسوا قطاعاً خاصاً رديفاً للقطاع العام، فلم تعد المؤسسات العامة تُغريهم. والآن، يأتي من يُعرقل باسمهم تعيينات عامة، بحجة غياب التوازن، من دون الذهاب نحو البحث في أصل المشكلة
18 مركزاً كانت شاغرة، لوظيفة حارس أحراج، في منطقة دير الأحمر. كم عدد الذين تقدّموا بطلبات توظيف إليها من أبناء قرى دير الأحمر والمحيط؟ «ما حدا قدّم»، بحسب رئيس مؤسسة «لابورا» الأب طوني خضرا، مُضيفاً إنّه «كان سيتم توظيف أفراد، من النبطية، نجحوا في المباراة، لأن أحداً لم يتقدّم من بلدات الدير». لا يقول خضرا ذلك من باب انتقاد تعيين لبنانيين من الجنوب في البقاع الشمالي، ولكن لتظهير مشكلة «انتقائية» المواطنين المُنتمين إلى الطائفة المسيحية، في التقدّم إلى الوظائف الرسمية، «لأنّ الأمر له علاقة بالاختصاصات والوظائف التي يتقدّمون إليها». يُقدّم خضرا الدورة الأخيرة في وزارة الخارجية والمغتربين، كمثال، حين بلغت نسبة نجاح المنتمين إلى الطائفة المسيحية 58.5٪. لكن بالعودة إلى دورات أخرى لملء شواغر في الإدارة العامة، يظهر «الخلل» بالرؤية التي تتمّ بها مقاربة وظيفة «الدولة»، لدى هذه الفئة من المواطنين. عام 2017، نظمت المؤسسة الوطنية للاستخدام مباراة لملء شواغر فيها. عدد الذين قُبلت طلبات ترشحهم من «المسيحيين» لوظيفة رئيس الدائرة الإدارية مثلاً، 122 شخصاً، من أصل 526 قبلت طلباتهم. أما لوظيفة سائق، فمن أصل 104 أشخاص قُبِلَت طلبات ترشحهم، بلغ عدد «المسيحيين» 14 شخصاً فقط. في وزارة الزراعة، بلغ عدد الذين قُبلت طلبات ترشحهم 229 مسيحياً، من مجموع 1841 شخصاً، من بينهم 199 «مقبولاً» مسيحياً لوظيفة حراس أحراج وصيد وأسماك، من أصل 1684 فرداً قُبلوا لخوض امتحان هذه الوظيفة
«الفرد المسيحي بحاجة إلى أن يتواضع أكثر، فهو لا يقبل بالحياة العادية. كان يُفتش عن الوظائف التي تؤمّن له دخلاً أكبر، يعني القطاع الخاص، بالتوازي مع عدم وجود توجيه وتوعية في المدارس والجامعات، على أهمية وظيفة الدولة»، يقول خضرا. في الإطار نفسه، يتحدّث النائب السابق فارس سعيد، عن أنّه «حين انهارت دولة المسيحيين في الـ 1975، ذهب أبناؤها يبحثون عن دولة. وكما كلّ الطوائف الأخرى، بنوا خلال الحرب مؤسسات رديفة، فتقدّم قطاعهم بتطوره وارتباطه بالغرب، على القطاع الرسمي». التقى الدافع الاقتصادي مع الأسباب السياسية، التي باعدت بين «المسيحيين» والدولة، منذ انتهاء الحرب الأهلية، ودخول الجيش السوري إلى لبنان، «ثم مقاطعة الانتخابات في الـ 1992، التي اعتُبرت محطة مفصلية. بعدها بدأ تراجع الدور المسيحي في الإدارة والدولة»، بحسب الوزير السابق يوسف سعادة. لكنّ القصة لا تقف عند وجود قطاع وظيفي بديل لهم، «بل بسبب الخوف من الخدمة على مساحة الوطن»، يقول سعيد، ذاكراً كيف أنّه ساهم في ما مضى بإدخال «30 شخصاً إلى قوى الأمن الداخلي، لم يبقَ منهم إلا ثلاثة». النائب وهبة قاطيشا مُتفائل: «حين يُصبح هناك دولة جدية، لا ينخرها الفساد للعظم، يتشجع عندها الفرد للعمل في مؤسساتها
في الـ 1990، كانت نسبة «المسيحيين» الذين يتقدمون إلى الوظيفة العامة 48٪، يقول خضرا. انخفضت النسبة إلى 13.5٪ مع بلوغ عام 2008، «لتعود وترتفع إلى 30٪ حالياً، بسبب التوجيه والإعلان السليم عن الوظائف المتاحة. منذ بداية عملنا في الـ 2008، أمّنا توظيف 9500 شخص في الدولة. عملنا على ردّ المسيحيين إلى الدولة وليس العكس». ولكن إعادة ارتفاع نسبة «المسيحيين» في الدولة لا علاقة لها فقط بالتوجيه والتدريب، فالأزمة الاقتصادية التي تعصف بالقطاع الخاص أدت دوراً رئيسياً بتبدل المعطيات.«أصبح القطاع الرسمي مُنافساً لأرباب القطاع الخاص»، يقول النائب آلان عون، ويُضيف إليه النائب الياس حنكش «ارتفاع المعاشات، نتيجة إقرار سلسلة الرتب والرواتب، ما شجّع الناس على الوظيفة العامة
أرقام إحصائيات المباريات للوظائف العامة، تعكس سبباً آخر لنقص نسبة المواطنين «المسيحيين»، في القطاع العام. فحتى لو وُجدت «النية»، للانخراط في المؤسسات الرسمية، «يبرز العامل الديموغرافي، كتحدّ أساسي أمامهم، لأنّه لا يوجد عددٌ كاف من المسيحيين للتقدم إلى الوظائف العامة»، بحسب أحد الخبراء الإحصائيين. في كتاب «انتخابات مجلس النواب اللبناني 2018»، الصادر عن شركة الدولية للمعلومات، يُذكر أنّ نموّ الناخبين المسيحيين وصل في تسع سنوات، إلى نحو 24.69٪، مقابل 75.31٪ نمو الناخبين المسلمين، للشرائح العمرية ما بين الـ 21 والـ 29 عاماً. وإذا استمرّ هذا الوضع، «وبغياب كوارث وحروب، فمن المتوقع أن تنخفض نسبة المسيحيين في عام 2081 إلى 11٪ مقابل ارتفاع نسبة المسلمين إلى 89٪، وذلك لأسباب عدّة تتعلّق ببناء الدولة». تدحض الأرقام، كلام الأحزاب والسياسيين «المسيحيين»، عن وجود «آخر» يستولي على «الحصة المسيحية»، ففي الأصل يوجد أسباب «ذاتية» تجدر معالجتها ليتمكنوا من إنهاء ما يعتبرونه «خللاً». وقد تكون البداية بإنهاء سياسة «وقف العدّ»، وإخراج الرأس من التراب، لتقبّل الوضع الحقيقي، وفهمه، والتمكّن من وضع استراتيجيات «إنقاذية». أما في الواقع الحالي، فستبقى مطالبتهم بالمناصفة بعيدة المنال
يتذكّر يوسف سعادة حين كان زياد بارود وزيراً للداخلية، «فطالبنا كتيار مردة داخل مجلس الوزراء، بالتعاون مع جبران باسيل، بفتح دورة في قوى الأمن الداخلي لـ 4000 عنصر، مُخصصة للمسيحيين. تعاون الجميع لتصحيح الخلل، ونجح يومها 3000 عنصر. هذا دليل على أنّ شركاءنا يريدوننا، لكن المشكلة فينا». انطلاقاً من هنا، يتبين للخبير الإحصائي أنّ الأولوية يجب أن تكون «بناء الدولة خارج النظام الطائفي». أما لدى السياسيين المُهتمين بالحفاظ على «المسيحية» كجماعة فاعلة في المجتمع، «فعليهم البحث في كيفية الحفاظ على وجودها الفعلي، من خلال تقديم المحفزات لأبنائها حتى لا يُهاجروا، ويتناقص عددهم. فالتحدّي الأبرز لا يتعلق بزيادة مقعدين أو ثلاثة للمسيحيين في الدولة، التي يُفترض أن يتم التعامل مع المواطنين فيها بمعزل عن انتماءاتهم الدينية، بل ما يُمكن عمله للحفاظ على الوجود الفعلي للمسيحيين في المجتمع
نتيجة النظام الطائفي القائم، تبرز كلّ مدة في لبنان هواجس واحدة من الجماعات الدينية، فتبدأ رفع الصوت مُطالبةً «بالحقوق». منذ بداية التسعينيات، والسياسيون المسيحيون، الذين خسروا الحرب أو أُخرجوا من الحكم، مُصابون بإحباط، يُحاولون تعميمه على الجماعات التي تتأثر بهم، من خلال الحديث عن غُبنٍ وحقوق مهدورة. أتى اتفاق الطائف، «ليُشعر الساسة المسيحيين بأنّ دورهم انحسر، فبدأوا البحث عن تعويض له، من دون أن يُقدّروا أنّ الطائف أعطاهم نهائية الكيان اللبناني»، يقول فارس سعيد، مُضيفاً إنّ هؤلاء «إذا لم يحكموا لبنان، تُصبح حدود دولتهم من كفرشيما إلى المدفون. وإذا حكموا البلد، يُطالبون بالـ 10452 كلم مربعاً
وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية شكّل رهاناً لكثيرين، بأنه سيُشكّل الحجر الأساس للانتهاء من مرحلة التعامل مع المواطنين بوصفهم رعايا الطوائف، نحو بناء الدولة المدنية التي تؤمّن الحقوق لكلّ أبنائها. فالإحباط لا يُصيب جماعة دون غيرها، بل هناك حالة عامة من التقصير في تأمين حقوق كلّ المواطنين. إلا أنّ العكس هو ما حصل، مع اتخاذ التيار الوطني الحرّ موقعاً له على طاولة زعماء الطوائف، وتضييقه دائرة الاهتمام خاصته لتُصبح محصورة بـ«جماعتنا، حقوقنا، موظفينا…»، ويظهر الأمر كأنّه مُجرد مطالبة بحقوق المسيحيين العونيين، وتأمين حصّة لهم في الحكم. كرّت سُبحة مُطالبة التيار العوني «بحقوق المسيحيين»، من تعطيل التوقيع على مراسيم بحجة غياب التوازن، وصولاً إلى طلب تفسير المادة 95 من الدستور. يرفض النائب ألان عون ما سبق، مؤكداً أنّه «بعد الـ 2005، بدأنا نربح المعركة تلو الأخرى في السياسة، والآن نخوض معركة الوظائف، لأنّ البُعد الوطني يقتضي أن يكون الجميع معنياً بالدولة ويشعر بأنّها له. وبالفعل تحسّن شعور المسيحي تجاه الدولة، بعدما عُدنا شركاء». يردّ الياس حنكش بأنّه«لم يسبق أن كان للمسيحيين تمثيل ورقي قوي، منذ اتفاق الطائف، كما هو اليوم: رئيس لديه وزن تمثيلي، الوزراء مُعينون من الأحزاب المسيحية الوازنة، العدد الأكبر من النواب المسيحيين يحظون بمشروعية شعبية نتيجة قانون الانتخابات، ولكن ذلك لم يلغ دافع الهجرة لدى المواطنين المسيحيين، والقرف من البلد. المعيار يجب أن يكون الكفاءة». فالقصة، كما يقول وهبة قاطيشا، «ليست عدداً، بل دور استراتيجي، والتوحد حول فكرة قيام دولة عادلة
يقول يوسف سعادة إنّ «الدستور واضح، بعدم ذكر المناصفة إلا بالفئة الأولى. إذا لم يكن هناك عناصر مسيحية تدخل إلى الجيش، مثلاً، لا نُشكّل جيشاً؟ المسيحي لا يتقدّم إلى الوظائف العامة، بسبب الخوف الذي يولده الخطاب الطائفي التحريضي. وهنا دور القوى السياسية المسيحية بأن توقف هذا الخطاب». أما السؤال المطروح، فهو «ما الدور الذي نريد؟ يجب أن نكون روّاد الدولة المدنية، ونشدّ بقية القوى اللبنانية نحو المواطنة
بعيداً عن معزوفة المناصفة، وإصلاح الخلل، يطرح رئيس مؤسسة «لابورا» الأب طوني خضرا إشكالية أخرى في مباريات الخدمة المدنية. «لماذا يوجد وظائف، مهلة تقديم الطلبات إليها شهر وأخرى 15 يوماً؟ لماذا لا يوجد معيار واحد؟ اللجان الفاحصة «مزبوطة»؟ كلا! لأنّ أعضاءها يضعون الأسئلة التي يكونون قد درّسوها لطلابهم في الجامعات». لذلك، يطرح خضرا وضع آلية «تبدأ باعتماد الكفاءة، وطريقة الإعلان عن الوظيفة، وتصحيح الامتحانات، وإصدار المراسيم». هذا الحلّ «بحاجة إلى دولة علمانية. إذا أردنا بلداً متنوعاً، ممنوع على أي طائفة أن تُهيمن. فبالأساس، لبنان التنوع هو المُستهدف». ويسأل خضرا: «يريدون إصلاح البلد أم لا؟ فليُصلحوه، ويكون هناك حقوق إنسان وعدالة وتوازن، وعندها تتحسّن أمور التوظيف
المصدر: الأخبار
الكاتب: ليا القزي